الجزء الثاني: الاجتماعات الدبلوماسية على العلن: استراتيجية للتواصل أم وهم للشفافية؟

سنركز في هذا الجزء من المقال على الدبلوماسية عبر الفيديو من مختلف الزوايا، من خلال دراسة بعض الاجتماعات الدبلوماسية التي أصبحت تُبث مباشرة بدلًا من عقدها سرًّا كما هو الحال في الماضي. يفرض هذا الاتجاه الجديد للدبلوماسية استراتيجيات تواصل جديدة، وهو ما يغير كيفية تفاعل الشخصيات القيادية، وتصوّر العامة للدبلوماسية. ولتحقيق فهم أعمق حول كيفية تأثير هذه الاجتماعات المتلفزة على التواصل الدبلوماسي، أجرينا مقابلة مع الدكتورة رانيا كرشود، وهي أخصائية في التواصل السياسي وأستاذة في جامعة بانتيون أساس. تسلط وجهة نظرها الضوء على الفرص والتحديات التي تطرأ نتيجة لهذا الشكل المتطور من الدبلوماسية.

أصبحت الاجتماعات الدبلوماسية في السنوات الأخيرة تُبث على شاشات التلفاز أو تُعرض مباشرة بشكل متزايد، وهو ما يُعتبر مرحلة جديدة في أساليب التواصل الدبلوماسي. كما أوضحت الدكتورة كرشود، يُعد هذا التحول استراتيجية مدروسة من خلال بث القمم أو اللقاءات في الوقت الفعلي. فمن خلالها، تسعى الشخصيات القيادية إلى مجابهة الأخبار الزائفة، وتوجيه السرد، ومنح الدبلوماسية مزيدًا من المصداقية. فما يراه المتابعون مباشرة يهدف إلى بناء الثقة وتعزيز الشفافية.

ومع ذلك، أشارت الخبيرة أيضًا إلى حدود هذه الشفافية السطحية. فالقمة المتلفزة لا تُعد تجسيدًا حقيقيًا للواقع، بقدر ما هي عرض معدّ مسبقًا. الكاميرات تلتقط فقط ما يرغب القادة في إظهاره، وليس ما يحدث فعليًا وراء الأبواب المغلقة. من هذه الزاوية، تثير الدبلوماسية عبر الفيديو، بصيغتها المباشرة، مفارقة واضحة: فهي تمنح انطباعًا بالشفافية، بينما في الواقع تقوم بتصفية وطمس الحقيقة. قد يشعر المواطنون بنوع من الانتماء عبر هذا النموذج، لكنهم في الحقيقة يحصلون فقط على أجزاء من سردية معدّة مسبقًا، وليس الصورة الكاملة للمفاوضات.

دونالد ترامب ضد فولوديمير زيلينسكي: دراسة حالة

يُظهر اللقاء الذي بُث مباشرة ودار بين دونالد ترامب وفولوديمير زيلينسكي في فبراير 2025 داخل المكتب البيضاوي كيف يمكن لدبلوماسية الشاشة أن تنقل صورًا مدروسة بعناية عن السلطة بدلًا من الشفافية الحقيقية. وبينما يوحي التنسيق التلفزيوني بالانفتاح، فإن المشهد كان مُنسقًا بالكامل ليوجه التركيز نحو هيمنة ترامب ويُظهر زيلينسكي في وضع من الخضوع.

تجلّى هذا التوازن غير المتكافئ في نبرة الرئيسين؛ حيث تحدث ترامب بنبرة صارمة، غالبًا ما كان يقاطع ويحوّل النقاش لصالح قراراته الشخصية. كانت لغته استعراضية، متوافقة مع عدسات الكاميرا، تتخللها تصريحات قاطعة وادعاءات عامة، وتأكيدات على أن موقف الولايات المتحدة هو من يقرر السياسة العالمية. وفي إحدى لحظات الحوار، قال ترامب لزيلينسكي: « لم تُظهر الامتنان لما فعلناه من أجلك ومن أجل بلدك. » لم تكن كلمات ترامب مجرد لوم، بل كانت أيضًا بمثابة تذكير بمن يهيمن على هذه العلاقة. ثم توجه ترامب إلى الكاميرات قائلًا: « يجب على الأمريكيين أن يروا هذا« ، مشددًا على أن الجمهور الحقيقي لم يكن زيلينسكي، بل الشعب الأمريكي، الذي أراد أن يظهر له سلطته وسخاءه.

كانت نبرة زيلينسكي، بالمقابل، أكثر تحفّظًا ودفاعية، إذ اقتصر حديثه على تدخلات قصيرة. فمحاولاته لتسليط الضوء على احتياجات أوكرانيا اصطدمت بسيطرة ترامب البالغة على مجريات الحوار، مما عزز الانطباع بخضوع زيلينسكي وتفوق هيمنة ترامب.

هذا ما انعكس بوضوح في لغة الجسد. فقد كان ترامب مسترخيًا، كثير الحركة في مقعده، وهو ما أظهر قوة وثقة بالنفس. وغالبًا ما كان يشير أو يلوّح باتجاه زيلينسكي، في صورة تعزز مكانته كمتفوق عليه. أما زيلينسكي، فكان جالسًا في زاوية، منحنِيًا نحو ترامب، يبدو عليه التوتر والتحفظ، ويداه مشبوكتان أو مستريحتان على ركبتيه. هذه الوضعية أوحت بالحذر وقلة القدرة على المناورة، في تباين واضح مع راحة ترامب الجسدية التي أكدت سيطرته على الموقف.

تكشف هذه الإشارات غير اللفظية عن مفارقة في دبلوماسية تم بثها مباشرة. فبينما ادعى هذا العرض الشفافية، فإنه افتقر إلى أبسط مقومات الحوار المتوازن، لينتهي به المطاف إلى تأكيد الهيكلية الهرمية للسلطة. لم يتمكن المشاهدون من متابعة جوهر المفاوضات، بل استهلكوا سردية صُمّمت لتُظهر الولايات المتحدة، ممثلة في ترامب، باعتبارها القوة المسيطرة، وأوكرانيا، ممثلة في زيلينسكي، كطرف تابع ومقيّد. بعيدًا عن تقديم الحقيقة الكاملة، تحوّل هذا البث إلى لقاء دبلوماسي معقد، أصبح في النهاية عرضًا رمزيًا للهيمنة، مما يبرز قدرة « الشفافية » على الإخفاء بقدر ما تُظهر.

كشف اجتماع 18 أغسطس 2025، الذي بُث على الهواء، كيفية استيعاب زيلينسكي لديناميكيات لقائه مع ترامب في فبراير من نفس العام. ففي اللقاء السابق، تعرض لتوبيخ علني بسبب عدم إظهار قدر كافٍ من الامتنان، وهو ما دفعه إلى تعديل استراتيجيته البلاغية في هذا الاجتماع الثاني. فقد كرر زيلينسكي شكره لترامب على المساعدات الأمريكية، مؤكدًا تقديره للدعم العسكري والمالي الأمريكي في كل فرصة. لم يكن هذا مجرد مجاملة، بل تكيفًا محسوبًا مع السياق التلفزيوني. يمكن القول إنه لم ينسَ الدرس القاسي الذي لقنه له ترامب في اللقاء الأول.

بينما كان صمت زيلينسكي ووضعه المتحفظ في فبراير يجعله يبدو مدافعًا وكأنه تحت التوبيخ، فإنه في أغسطس كان قد تعلم كيفية إظهار وقاره بشكل أوضح. كان أسلوبه ودودًا ومليئًا بالامتنان، مع ميل طفيف إلى الأمام وإيماءات مفتوحة اليد عبرت عن الانتباه والاعتراف. أما ترامب، فقد تبنّى نبرة أكثر تساهلًا من السابق، وكان يبدو راضيًا عن شكر زيلينسكي المتكرر. ورغم ذلك، ظل التفاوت بينهما قائمًا، لكن التفاعل بدا أكثر سلاسة، كما لو أن القائدين قد فهما قواعد هذا الأداء الجديد لـ »دبلوماسية الشاشة ».

مدرسة ترامب في التواصل: المباشرة، القوة، وأمركة الدبلوماسية

بفضل دونالد ترامب، أصبح أسلوب التواصل الذي يتسم بالمباشرة والحزم والرغبة في إظهار القوة والسيطرة سمة بارزة تركت بصمة دائمة على استراتيجيات الدبلوماسية لدى الشخصيات القيادية العالمية. وتسمّي الدكتورة كرشود هذا الأسلوب بـ »مدرسة ترامب في التواصل ». يتمحور هذا الأسلوب في جوهره حول استعراض القوة، وتعظيم الذات، وتغيير التصوّر العام؛ حيث تصبح الدبلوماسية، بذلك، ليست مجرد عملية تفاوضية، بل عرضًا موجهًا للجمهورين المحلي والدولي. وقد ساهم هذا النهج في « أمركة » الخطاب الدبلوماسي، من خلال التركيز على الظهور الإعلامي، والتفاعلات المُعَدّة مسبقًا، والرسائل الحازمة، على حساب الدقة والتقاليد الدبلوماسية الكلاسيكية.

تتجلى هذه التأثيرات بوضوح في زيارة إيمانويل ماكرون إلى لبنان في يناير 2025، حيث وجّه انتقادات صريحة للقادة اللبنانيين بسبب تقاعسهم السياسي، مؤكدًا أن « القادة اللبنانيين مدينون لشعبهم بالحقيقة والشفافية. » سواء خلال الزيارات الميدانية أو عبر اللقاءات المباشرة، اعتمد ماكرون أسلوبًا حازمًا وواثقًا يعكس سلطته ودور فرنسا القيادي. هذا النهج يعكس الطابع الاستعراضي الذي تبناه ترامب، حيث تعزز الكاميرات حضور القائد من خلال رسائل مباشرة وحازمة، وتفاعل يتمحور حول الصورة والانطباع بقدر ما يتعلق بالسياسة.

من خلال هذا المنظور، يمكن فهم سلوك ماكرون في لبنان كمثال واضح على تطبيق طريقة ترامب في التواصل خارج الولايات المتحدة، مما يُظهر اتجاه القادة المعاصرين نحو الاعتماد المتزايد على الاستراتيجيات الحازمة التي تستغل الإعلام لتعزيز سلطتهم، جذب الانتباه، وصياغة الروايات الدولية.

تظل إحدى أهم النقاط التي أثارتها خبيرتنا رانيا كرشود خلال المقابلة متعلقة بـ »تأثير ترامب » في التواصل الدبلوماسي. فقد لاحظت أن العديد من السياسيين المعاصرين، سواء عن وعي أو دون قصد، تبنّوا أسلوب تواصل مشابهًا يتسم بالحزم والتركيز على الصورة. وهذا يثير سؤالًا جوهريًا: هل يُسهّل اعتماد نفس أسلوب التواصل بين القادة المفاوضات الدبلوماسية أم يزيدها تعقيدًا؟

أقرت الخبيرة بأن هذا السؤال مثير للاهتمام ويستحق دراسة مخصصة بحد ذاته. ومع ذلك، فقد شددت على أنه رغم أهمية الأسلوب، فإن فاعلية التواصل الدبلوماسي لا تعتمد عليه فقط، بل تتأثر أيضًا بعوامل عدة، من بينها الاعتبارات المالية والاقتصادية. بعبارة أخرى، في حين أن تبني أسلوب ترامب في الخطاب الذي يستغل الوسائل الإعلامية لصالحه قد يؤثر في تصور الرأي العام وفي تفاعلات الشخصيات القيادية مع بعضها البعض، فإن جوهر المفاوضات من ميزانيات وموارد ونفوذ اقتصادي يظل أساسًا لتحقيق نتائج دبلوماسية ملموسة.

تُضفي هذه الرؤية بُعدًا جديدًا على مناقشة الدبلوماسية المتلفزة؛ فبينما قد تهيمن العروض الإعلامية المُعَدّة مسبقًا والتواصل الحازم على السرد العام، يظل التأثير الحقيقي في الواقع قائمًا على القوة الهيكلية والموارد المادية. وهذا يذكّرنا بأن الدبلوماسية تجمع بين الطابع الاستعراضي والجانب العملي في آنٍ واحد.

في الواقع، تبرز هذه الصورة الدقيقة بوضوح عند مقارنة تفاعلات ترامب مع زيلينسكي ومع فلاديمير بوتين. ففي قمة ألاسكا عام 2025، ورغم أن تواصل ترامب ظل حازمًا، فإنه اتّسم بقدر أكبر من التوازن والحذر. فعلى عكس أوكرانيا، تمتلك روسيا قوة عسكرية واقتصادية كبيرة، وهو ما قيّد هيمنة الرئيس الأمريكي على المشهد الاستعراضي. وبالمثل، عكست تفاعلات ترامب مع بوتين خلال قمة مجموعة العشرين في 2019 هذا التوازن الحذر. تُظهر هذه التباينات أن تأثير أسلوب التواصل الحازم المعتمد على وسائل الإعلام يستحكمه حجم الموارد الاقتصادية والعسكرية للطرف الآخر، وهو ما يؤكد ما أشارت إليه الخبيرة كرشود: أن الأسلوب وحده لا يحدد نتائج المفاوضات الدبلوماسية.

على الرغم من الخلافات التي قد تطال هذا الموضوع، تؤكد الدكتورة كرشود أن لدبلوماسية الشاشة مزايا عدة. فمن خلال بث الاجتماعات أو الحوارات على الهواء مباشرة، تزداد المصداقية وتقل الشائعات، ما يضمن الحق الأساسي للمتابعين في الوصول إلى معلومات دقيقة. لا عودة إلى الدبلوماسية التقليدية المغلقة؛ بل يمكن للطريقتين أن تتعايشا معًا، مكملتين لبعضهما البعض. وبالتالي، أصبحت الشفافية الآن أمرًا لا مفر منه، إذ يجب على الرئيس أو السياسي أن يشارك المعلومات مباشرة مع العامة، وهو ما يساعد في منع انتشار الأخبار المزيفة والروايات المضللة.

ولهذا السبب، ولتعظيم فوائد هذا التيار، تؤكد خبيرتنا على أهمية التعليم الإعلامي، لضمان تزويد المتابعين بالمهارات اللازمة مثل التمييز بين المعلومات الحقيقية والمحتوى الزائف، والتحقق من المصادر، والتحلي بالتحليل النقدي لها. بهذه الطريقة، يمكن لدبلوماسية الشاشة أن تصبح أداة موثوقة وفعّالة تعزز المشاركة المدروسة في الشؤون الدولية.

أظهر هذا الجزء أن الدبلوماسية المتلفزة و »مدرسة ترامب في التواصل » قد غيّرت إدراك الشخصيات القيادية للسلطة وتأثيرهم على التصورات العامة. فبث اللقاءات الحية والعروض الإعلامية المدروسة يتيح للسياسيين فرض سلطتهم والتحكم في السرد. لكن، كما أبرزت خبيرتنا، فإن فعالية التواصل تعتمد في النهاية على عوامل هيكلية عديدة مثل الموارد الاقتصادية والعسكرية. وتُظهر المقارنة بين تفاعلات ترامب مع زيلينسكي ومع بوتين هذا بوضوح، إذ يمكن لنفس الأسلوب الحازم أن يقدم نتائج مختلفة بناءً على قدرة الطرف الآخر على المقاومة أو التفاوض.

إذا أصبحت الدبلوماسية في هذه البيئة المتطورة مزيجًا يجمع بين العروض الأدائية والمفاوضات، حيث يتقاطع الوضوح والأسلوب واستراتيجية الإعلام مع السلطة الواقعية، فإن جوهر العلاقات الدولية يظل قائمًا على الموارد الملموسة. وهو ما يذكّرنا أن التواصل وحده لا يمكن أن يحل محل القدرة الدبلوماسية التقليدية..

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *


Retour en haut