الدبلوماسية عبر الفيديو : ما وراء الشاشة وخلف الكواليس – الوجه الجديد للدبلوماسية

القسم الأول: هل يمكن لمحادثات الفيديو أن تحل محل اللقاءات المباشرة؟

يُعدّ مفهوم الدبلوماسية من المفاهيم الديناميكية التي لا تكفّ عن التطوّر، إذ تتأثر دلالاته الأساسية بمجموعة من العوامل المتغيّرة مثل الحروب، الأزمات، الاكتشافات العلمية، والتطورات التكنولوجية. وقد سمحت مرونة هذا المفهوم بتوسيع نطاق الممارسات الدبلوماسية، مما أفسح المجال لظهور مصطلحات جديدة مثل:
« الدبلوماسية الرقمية »، « الدبلوماسية الهجينة »، و »الدبلوماسية الافتراضية »، وصولًا إلى ما يُعرف اليوم بـ »دبلوماسية الشاشة ». ولا تعكس هذه المصطلحات أشكالًا متعددة من العمل الدبلوماسي فحسب، بل تمثل أيضًا مخرجات لتحول تكنولوجي عميق قد يسهم في إعادة تشكيل بعض المفاهيم الجوهرية للدبلوماسية، بل وقد يؤدي أحيانًا إلى تعقيدها أو التشويش عليها.

يبقى السؤال المطروح: هل ما زالت الدبلوماسية تُختزل في محادثات سرّية وقمم مخططة بعناية؟ أم أنها أصبحت، في عصر الشاشات، تفاعلًا رقميًا لا يقلّ تأثيرًا عن الاتصال المباشر؟

يتناول هذا الجزء من المقال دور محادثات الفيديو كأداة في التواصل الدبلوماسي، مسلّطًا الضوء على تكاملها مع الأساليب التقليدية دون أن تكون بديلًا عنها. ولمزيد من التعمّق في هذه المسألة، أجرينا مقابلة مع الدكتور حافظ الغربي، المختص في السياسات الأمريكية والعلاقات الدولية بجامعة سوسة، وأستاذ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتونس. وقد شاركنا رؤيته حول أبعاد الدبلوماسية المباشرة، بما في ذلك فوائدها وتحدياتها.

على الرغم من أن « دبلوماسية الشاشة » كانت متاحة قبل جائحة كوفيد-19، فإنها لم تكن شائعة الاستخدام. غير أن تفشّي الجائحة وفرض قيود السفر وإغلاق الحدود دفع الشخصيات القيادية إلى الاعتماد على الإنترنت كوسيلة وحيدة للتواصل. ومع انتقال القمم الدبلوماسية والمحافل الدولية من الفضاءات الرسمية والحضور المادي إلى شاشات الأجهزة الرقمية، تحوّلت الوسائل التي كانت تُعدّ سابقًا غير رسمية إلى أدوات أساسية لضمان استمرارية الحوار الدولي.

لم تختفِ « دبلوماسية الشاشة » بعد رفع القيود الصحية، بل مهّدت الطريق لظهور شكل جديد من الدبلوماسية الهجينة. ففي صباح صيفي من أغسطس 2025 في بروكسل، لم يجتمع وزراء الخارجية الأوروبيون حول طاولتهم المعتادة كما جرت العادة، بل سجّلوا دخولهم إلى الاجتماع عبر مكالمة فيديو، تعتريها ابتسامات مشوشة وأصوات منقولة عبر الميكروفونات، بينما تُتخذ القرارات عبر الشاشات.

لقد أصبحت مثل هذه المشاهد جزءًا مألوفًا من واقعنا الدبلوماسي الجديد، حيث أفسحت التكنولوجيا المجال لأساليب تواصل بديلة لا تقلّ تأثيرًا عن اللقاءات المباشرة.

حتى الآن، ما زال التركيز منصبًا على اللقاءات الرسمية المباشرة، خاصة تلك التي تُعقد على مستوى رفيع، نظرًا لما تحمله من رمزية في المصافحات أو الصور التذكارية. ومع ذلك، فقد فرضت المحادثات عبر الفيديو حضورها في الساحة الدبلوماسية، وهو ما أتاح للقادة الالتقاء أكثر من ذي قبل والتفاعل الفوري مع الأحداث، بالإضافة إلى تعزيز التنسيق على نطاق أوسع، وإن كان ذلك على حساب التلميحات والمحادثات الودية التي كانت تُجرى سرًّا.

لا شك أن الدبلوماسية عبر الفيديو توفّر مزايا واضحة من حيث السرعة والفعالية وسهولة الوصول. إلا أن تأثيرها الحقيقي يتمثل في كيفية انعكاسها على طبيعة التواصل بين الشخصيات القيادية. فبالرغم من أن مكالمات الفيديو تقلّل من وقت السفر وتكاليفه، وتسهّل المشاورات العاجلة وتجعل الحوار الدولي ممكنًا حتى في أوقات الأزمات، فإنها قد تغيّر أيضًا الطريقة التي تُرسل بها الرسائل وتُستقبل.

هل أصبح التواصل الدبلوماسي في خطر؟

على الرغم من الفوائد العملية التي تقدمها دبلوماسية الشاشة، يطرح بعض المراقبين والدبلوماسيين تساؤلات حول قدرتها على تعويض اللقاءات التقليدية المباشرة. وقد أشار الأستاذ حافظ الغربي إلى أننا « سنستمر في اعتماد الطريقة التقليدية »، موضحًا أن الأمر لا يعود إلى تمسك بالماضي، بل إلى حدود ما يمكن أن تنقله الشاشات من تفاصيل دقيقة. فالصمت، ولغة الجسد، والتواصل البصري داخل غرف المفاوضات قد يكون لها أحيانًا أثر يعادل ثِقَل الكلمات. لهذا قد لا تتمكن عدسات الكاميرا من التقاط هذه التفاصيل الجوهرية، التي قد تُحدث فرقًا في مجريات المحادثات، لا سيما الحساسة منها.

. يُعتبر عجز تقنية الفيديو عن إيصال الرسائل المضمَّنة أو الحساسة مصدر قلق لدى البعض. فالدبلوماسية ترتكز على عناصر متعددة، من بينها دقة التفاصيل والحذر في صياغة التنازلات أو التصريحات المثيرة للجدل، بما يسمح للطرفين بادّعاء تحقيق مكاسب. إلا أن مكالمات الفيديو تتسم بالتشويش، وغالبًا ما تتعرض للأعطال أو تؤدي إلى تأخيرات محرجة. كما يمكن أن تقوّض بعض العناصر الأساسية في العملية الدبلوماسية، وهو ما قد يُشوّه التجربة أو يترك انطباعًا سلبيًا لدى المشاركين.

من جهة أخرى، تبرز بعض المخاوف المرتبطة بمسألة الأمان. فعلى عكس اللقاءات التي تُعقد سرًّا داخل الغرف الدبلوماسية، تظل منصات المحادثات عبر الفيديو عرضة للاختراق، وتسريب المعلومات، أو التطفل. لذلك، فإن اعتماد الحكومات على القنوات الرقمية قد يعرّضها لخطر كشف أسرارها أمام منافسين أو جهات خبيثة. ومع التقدّم المتسارع في مجال الذكاء الاصطناعي، بات من الممكن استخدام هذه التقنيات للتلاعب بمقاطع الفيديو أو إنشاء نسخ مزيفة منها، مما يمنح بعض الأطراف أفضلية على حساب أخرى، ويسهم في تعميق أزمة التواصل على المستوى الدولي. وقد شدّد ضيف المقابلة على هذه النقطة، مؤكدًا أن « لتقنيات الذكاء الاصطناعي قدرة تلاعبية… لذا يجب الالتزام بالحذر عند استخدامها ».

ختامًا، يرى بعض المراقبين أن دبلوماسية الشاشة تُسهم في تلاشي مصداقية الحوار الدولي. فلطالما شكّلت المحافل الدولية التقليدية إطارًا مثاليًا لـ »تبادل المجاملات » والمصافحات الرمزية والوجبات الاحتفالية، فضلًا عن عقد المؤتمرات الصحفية المُعَدّة بعناية، والتي قد توحي للجمهور المحلي بشعور من الثقة عند بثها. أما دبلوماسية الشاشة، بطبيعتها الجافة، فقد تحوّل التفاعلات الدولية إلى بيئة تشاؤمية تحكمها ازدواجية المعايير، مما قد يؤدي في النهاية إلى إضعاف القوة الرمزية التي لطالما تمتعت بها الدبلوماسية.

يشير الدكتور الغربي إلى أهمية الدور الذي ما زالت تلعبه الدبلوماسية التقليدية، خاصة بالنسبة للدول التي لا تزال تعاني من ضعف في اعتماد التكنولوجيا الحديثة، وتأخر في مؤسساتها، وقلة الوسائل المالية لمواكبة أحدث التوجهات في العمل الدبلوماسي. ويؤكد في هذا السياق أن المثال التونسي يوضح ذلك بجلاء، فـتونس، كما يوضح، لا تزال غير مستعدة للتأقلم مع تيار دبلوماسية الشاشة. إذ غالبًا ما تعطي الحكومة التونسية الأولوية للقضايا المحلية والتقلبات المالية والتحديات الاجتماعية بدلًا من التركيز على رقمنة أدواتها الدبلوماسية.

تؤدي هذه الفجوة إلى اعتماد تونس بشكل رئيسي على نموذج دبلوماسي تقليدي قائم على الحضور المباشر، خاصة عند الدفاع عن مصالحها الوطنية على الساحة الدولية. ولهذه الأسباب، لا يمكن الاستغناء عن الدبلوماسية التقليدية، خصوصًا في الدول التي تفتقر إلى الإمكانيات المادية أو الفكرية. ومن هنا، يظل حضور العنصر البشري داخل الأوساط الدبلوماسية أحد الركائز الأساسية لممارسة هذا النوع من العمل.

ولتعزيز وجهة نظره، استشهد الدكتور الغربي بالزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة إلى الرئيس الأمريكي جون ف. كينيدي سنة 1961. فقد كانت الهيبة الشخصية لبورقيبة، إلى جانب براعته في الخطابة وفصاحته في التعبير، من أبرز الصفات التي لفتت انتباه كينيدي، وأسهمت في تغيير النظرة الأمريكية تجاه دور تونس في المنطقة.

ومن خلال هذا البعد الشخصي، شبه المسرحي، المتأصل في العمل الدبلوماسي، تكتسب المصافحات ونبرات الصوت ومخرجات التبادلات الفكرية أهمية لا يمكن لمكالمة فيديو أن تنقلها بشكل كامل. وبالنسبة للدول النامية، تبقى هذه اللقاءات الشخصية أدوات حيوية لضمان الحضور وتعزيز المصالح الوطنية ضمن نظام دولي تهيمن عليه القوى الكبرى.

في ضوء هذه التأملات، يتضح أن دبلوماسية الشاشة، وعلى الرغم من طابعها العملي واعتمادها المتزايد في عالم يسير بخطى متسارعة نحو العولمة والرقمنة، لا يمكن أن تحل محل العناصر الجوهرية التي تقوم عليها الدبلوماسية المباشرة. فالتفاعل البشري، والإيماءات، ولغة الجسد، والنبرة، تبقى عناصر أساسية في نقل الرسائل، كما أن الحضور الشخصي للشخصيات القيادية غالبًا ما يحمل من الدلالة ما يعادل قوة الكلمات التي ينطقون بها. وهي أبعاد لا تستطيع الشاشات الرقمية نقلها بالكامل. ومع ذلك، فإن التطور التكنولوجي يظل واقعًا لا يمكن تجاهله في هذا العالم المعاصر. ولا ينبغي للدبلوماسية أن تقاومه، بل عليها أن تتكيف معه. فعلى الرغم من الكفاءة الفورية والانتشار الواسع الذي توفره أدوات الدبلوماسية الرقمية، خاصة في أوقات الأزمات أو عند وجود قيود لوجستية، فإن التوجه نحو نموذج هجين يجمع بين الوسائل الرقمية والتقليدية يُعدّ المسار الأكثر فاعلية لمستقبل العمل الدبلوماسي. فهذا النموذج من شأنه أن يعزز مرونة النظام الدولي وقدرته على التكيف، دون أن يغفل الدور الجوهري للتواصل الإنساني المباشر

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *


Retour en haut